علم البيئة الصوتي :
ولد الإنسان وما يزال يعيش منذ نشأته ككائن حي في وسط صوتي بيئي طبيعي متنوع واكبه منذ خطواته الأولى ولغاية الوقت الراهن، حيث تحيط به جملة من الأصوات الطبيعية كصفير الرياح،قصف الرعد،خرير المياه، تغريد لطيور وكافة أصوات الحيوانات والنباتات والبشر.
تكمن أهمية الأصوات الطبيعية في أنها تعبر عن وقائع بيئية هامة ومحددة مرتبطة بوجوده ، لذا كان سمعه منسجماً معها( ومدوزناً ) على نغماتها وأضحت جزأً هاماً من الوسط البشري ، وعندما بدأت تختفي أو تنحسر حاجة البشر لتلك الأصوات بقيت ولا تزال تترك أثراً إيجابياً على الإنسان ونفسيه ومشاعره ولهذا السبب بالذات تعجبنا الأصوات الطبيعية ولا تتعبنا أو تزعجنا أو تضرنا.
أمّا واقع الحال بالنسبة للأصوات التقنية الاصطناعية والمصطنعة يختلف تماماً حيث هي قصيرة الأجل ولا يتجاوز عمر مواكبتها للتاريخ الإنساني المئتي عام (200) ولغاية الآن لم نتعود على سماعها ولا ولن تستسيغها آذاننا وتبقى كما عليه منذ بروزها غير مريحة لمسامعنا بل حتى مضرة بصحتنا ، ومسيئة للنباتات والحيوانات على السواء.
لا يلحظ سكان المدن الكبيرة التلوث الضجيجي وهم تعوّدوا عليه كأمرٍ طبيعي حتى أنهم غير قادرين على التصور كم هو مناف للطبيعة، مزعج وضار? ولا بد أن تتحققوا في أول زيارة لكم لمدينة كبيرة كم هو هائل مستوى الضجيج الناتج عن صخب حركة المواصلات، هدير محركات الطائرات صخب السيارات والقطارات،السفن، التراموايهات، المصانع والمستودعات ويبدو أنه لا مفر لكم أو ملجأً من تلك الأصوات، ولا تكاد تدخل المنزل متأملاً بالإفلات أخيراً من قبضتهم وحصارهم حتى تجدون أنفسكم ملاحقون من جديد في بداية بالمصعد من ثم ما يكاد ينسدل باب البيت حتى تبدؤوا سماع أنغام البرادات والغسالات والرائي، المذياع والموسيقا الصاخبة ببيت الجيران وهكذا دواليك من الأصوات.
ربما سائل يسأل:إذا كان الضجيج يحيط بالإنسان ومرتبط بحياته بهذه الدرجة والعمق قد يكون ليس ضاراً كثيراً بنا لكما نتخيّل، فالجواب - نعم ضار وضار جداً ويعتبر تأثيره على الجسم الحي أكثر سوء أو خطراً من الأثر الناتج عن التلوث الكيميائي ، بالرغم من أنهما أمران أحلاهما مر لكن هذه حقيقة لا مفر منها.
حذّرت منظمة اليونسكو و منذ آواخر الستينيات (1967) من أن الضجيج هو مصيبة العالم المعاصر و نتاج حضارته غير المرغوب به، لكن وبعد مرور أكثر من 33عاماً من الزمن أصبح الصخب أكثر خطرا وارتفعت قيمته في معظم المدن الكبرى في العالم بمعدل12- 15د. ب، أمّا قيمة الضجيج الذاتية فارتفعت وبمعدل( 3 - 4 ) مرات وانخفضت إنتاجية العمل بنسبة15-20%وأزداد بشكل ملفت للانتباه عددا لأمراض المهنية وبشكل خاص خطر السكتات القلبية والدماغية المبكّرة عند كبار السن وتسارع شيخوخة الجسم وكل هذا أدى لتراجع نوعي في جودة الوسط الطبيعي المجاور- أي ظروف حياة الناس ويعتقد الخبراء أن الصخب المرتفع في المدن العملاقة يقصّر عمر البشر نحو 8 -12 سنة
يميزا لعلماء شكلين للتأثير الضجيجي على الجسم الحي:مباشر و غير مباشر وينعكس التأثير المباشر للضجيج على صحة الإنسان بكونه يلعب دوراً هاماً في إرتفاع نسبة أمراض القرحة المعدية، والجملة العصبية - النفسية وأمراض القلب الأوعية الدموية ففي المجتمعات الأوربية يعاني وسطياً كل( 4 ) رابع رجل كل(3) ثالث امرأة من العصبية( النرفزة) الناتجة عن الضجيج والصخب المرتفعيين ووفقاً للإحصائيات كل (5) خامس مراجع لمستشفيات الأمراض النفسية يقصدها من جراء تعرضه للضجيج ،أمّا حاسة السمع فهو الأكثر تضرراً من الضجيج و يُعتقد أنه من بين كل مائة قروي يعاني من20-30شخصاً من سوء السمع أمّا هذا المعدل في المدن فيصل إلى (5) خمسة أضعافه في الريف ويؤدي إلى انخفاض نسبة الاستيعاب الدراسي-التعليمي ومردود الراحة أثناء النوم وإلى الضجر والقلق خصوصاً عند الأطفال فتزداد عصبيتهم وبكائهم ولم يكن من قبيل الصدفة أن يُعاقب المجرميين في العصور الوسطى بواسطة رنين(طنين) الأجراس الذي كان يعتبر عقاباً مؤلماً ومميتاً.
أخترع الأطباء مصطلح " المرض الضجيجي" لوصف ودراسة التأثير الإجمالي للضجيج على الإنسان والذي تعتبر من أهم أعراضه :
الصداع، القيئ ،العصبية والقلق و في حالات ليست نادرة نقص مؤقت لدرجة السمع، أمّا الأسباب المؤديّة لهذا المرض فهي عديدة ندرج فيما يلي أهمها : العمل في أماكن وفي شروط مشبعة بالضجيج ( كمعامل الحديد، حقول إختبار محركات الطائرات الموانئ.ألخ )
ويشكو غالبية سكان المدن من المرض الصخبي نتيجة تعرضهم لضغوطات صخبية عالية ونبين فيما يلي المعدلات الطبيعية أو ( النظامية ) للصوت بوحدة قياس الضجيج( د.ب)*والتي ينبغي أن لا تزيد في غالبية حجر المشافي الصحية عن35 د.ب نهاراً،25 د.ب ليلاً أمّا بالنسبة للبيوت والمنازل بحدود 55 و45 د.ب بالتماثل.ونحن نعلم حق العلم كل مصادر إنبعاث الأصوات التقنية الإصطناعية، الملوثة صوتياً للوسط البيئي، والتي من أهمها : الطائرات النفاثة المحلقة على إرتفاعات منخفضة-100 د.ب، التراموايهات -90د.ب الباصات -85 د.ب، السيارات -71 د.ب، مركبات نقل القمامة-75 د.ب المجاري الصحية -83 د.ب والغسالات - 74 -76 د.ب. أثبت العلماء أن الضجيج يؤثر على صحة الإنسان ليس فقط بشكل مباشر، بل بشكل غير مباشر بواسطة تأثيره على الطبيعة فهو يقلص من أعمار الأشجار في المدينة ،التي هي أقصر عمراً مماً هي، عليه في الريف، نظراً لإرتفاع كثافته ولو عرضّنا النباتات إلى صخب كثافته تساوي -100 د.ب لما أستطاع البقاء حياً أكثر من عشرة أيام حيث تبدأ الأزهار والأوراق بالذبول تحت وطأته و يلتجم نموها، أمّا الطيور فتجبر على هجرة أعشاشها وترك لقاها -( بيوضها) وتمتنع عن رعاية فراخها وقد يؤدي الصخب المرتفع الى تشقق البيوض وتخثرها أمّا عند فصيلة الثديات فتسبب الضجة بتغييرات في ضغط الدم والضرر بالعضلات القلبية وقد تؤدي إلى الموت في نهاية المطاف نتيجة للشلل القلبي،وتنكفئ بغض الفئران عن التكاثر وقد يلتهم بعضها لصغاره وتحت تأثير الضجيج تتعرض الحوامل من الثعالب في مرحلة ما قبل الولادة إلى الإجهاض أو الطريحة أو الولادة المبكّرة وهذا ما قد يؤدي في حالة مزارع تربية الحيوانات وإكثارها لخسائر إقتصادية. يبدو واضحاً مما سبق أن الضجيج يخلق ظروفاً مقيتة وغير مريحة في أماكن تواجد الحيوانات والطيور مما يضطرها لمغادرة المكان وبالإضافة لذلك هو يقضي على يرقات بعض الحشرات و(أمبريونات) بعض الطيور ويشقّق قشور بيوضها، وتفقد بعض الحيوانات تحت تأثير الضجيج قدرتها على التوجة في الأفق والتقدير الصحيح لأماكن تواجدها- كل ذلك يؤكد أن الضجيج ضارُ وضارٌ جداً بصحة كافة الكائنات الحية والنباتات، لكن من الممكن التقليل والحد من آثاره السلبية المختلفة بمراعاة و إتباع وسائط وطر ق وتوجد عدة حلول ووسائط لمكافحة الضجيج والحد من مساوئه: